يوم يحلم به الجميع

دخل المواطن أخيرا الى حجرة الطبيب النفسي..جلس منقبض النفس لسببين اثنين..عشر راتبه الذي سيضعه في يد السكرتيرة اثر انتهاء هذه الحصة والسبب الثاني خوفه أن ينتشر خبر توجهه الى معالج نفسي ليفتضح أمره ويصبح في عداد "المجانين" في نظر محيطه الذي قد يتبرأ منه اذا اشتم خبر هذه الزيارة خاصة وان زوجته تنتظر أي فرصة سانحة للانفصال عنه ولن تجد أحسن من ادعاء جنونه للوصول الى مبتغاها

ارتبك المواطن قليلا في البداية فهو لم يتعود طيلة حياته التعيسة ان يعطيه أحدهم من وقته لينصت الى مشاكله ومصائبه..شجعته ابتسامة الطبيب وحلاوة كلامه على الارتياح قليلا ثم ومن دون ادنى تمهيد انخرط في وصلة بكائية عنيفة انهمرت خلالها دموعه مدرارا ليضطر الطبيب الى محاولة تهدئته فالحالة الثانية تنتظر في الخارج ولا وقت يضيعه مع هذا، وبعد حوالي نصف ساعة سكت المواطن وحاول لملمة شتات افكاره ليخبر الطبيب بماجاء به اليه

"أشعر دائما بالعزة والكرامة والاحترام ولا تبارح السعادة قلبي " بدأ المواطن فضفضته بهذه الكلمات ثم استطرد "أستيقظ صباحا وشعور بالسعادة يغمرني خاصة واني أمارس الحب مع زوجتي كل ليلة واحتضنها فيما بعد وننام سوية.." لم يكمل جملته وانخرط في نوبة جديدة من البكاء ليتم حديثه بعد ربع ساعة أخرى "أستيقظ متلهفا للذهاب الى عملي ورؤية تقاسيم وجه رئيسي في العمل اللي دائما ما ينعتني ب"المخلص" و"المثالي" ولا يمر شهر دون ان يأمر بزيادة راتبي ..

..ألبس أغلى ما لدي من ثياب وأخرج الى الشارع سعيدا منشرحا يملأ التفاؤل قلبي لأصل الى محطة الحافلات الواقعة في منتزه طبيعي يطل على مؤسسة عمومية يتدافع موظفوها كل صباح للدخول إليها ثم أصعد الحافلة التي تتواتر رحلاتها كل خمس دقائق..أجد فتاة تدلني على المقعد الذي سأجلس فيه وتعطيني صحيفة تونسية أجد فيها كل ما يهم حال البلاد والعباد وسط أنغام يضعها السائق لبيتهوفن أحيانا وشتراوس أحيانا أخرى..

أنتشي بالأخبار التي أجدها على الصفحة الأولى فهذه أسعار المواد الغذائية تشهد انخفاضا بالنصف وأسعار المحروقات صارت شبه مجانية والبطالة أصبحت في حدود 1 في المائة إضافة إلى مقالات رأي تتحدث عن حالتنا مواطن في حضرة طبيب نفسي المزدهرة وترتيبنا العالمي المحترم في شتى المجالات وحالات الطلاق التي لا تتجاوز الحالة شهريا ولاعبينا المحترفين في اعتى فرق العالم ووو لأغلق الجريدة وقد أخذت نصيبي وزيادة من الانتشاء

سكت المواطن وأطلق تنهيدة طويلة تبعها بوصلة بكائية جديدة أطلق خلالها ألفاظا غير مفهومة تبين منها الطبيب أن المواطن يعبر عن ملله من هذه السعادة واختناقه بها..تابع قائلا "تطالعني وأنا في الحافلة مناظر طبيعية رائعة ووجوه بشرية سعيدة يكاد السرور ينفجر منها إضافة إلى سيارات تشق الطريق بانتظام ولا تسمع إلا تحيات صباحية يتفنن قائلوها في تنويعها والتعبير بها عن ما يخالج صدورهم من تفاؤل صباحي..

أدخل مكتبي تحت وابل من التحيات الصباحية لأجد زوجتي هناك..فنحن نتسابق على الوصول الى المكتب الذي شهد ولادة قصة حب عنيفة كحال جميع مكاتب اداراتنا..اقبلها وأبدأ عملي في خدمة المواطنين الذيم يتوافدون علي بابتسامة عريضة يحمل كل واحد فيهم باقة أزهار كتعبير منهم على مايجدونه من حفاوة استقبال وتسهيل لمعاملاتهم..أنهي يومي وأتأبط يد زوجتي التي تمانع في الانجاب كي لا تترك الفرصة لقلبها ان يحب غيري..أصل الى المنزل ونشاهد برامجنا التلفزيونية التي تجبرك ان ترسم الف ابتسامة على شفاهك وتزرع فيك الأمل بغد مشرق


دون مقدمات ضرب المواطن بيده على الطاولة "لقد مللت لقد اختنقت من السعادة والاحترام أمعقول بربك أن اشعر كامل اليوم بالنخوة والكرامة وان الكل يحترمني ويقدرني اليس من الجنون ان لا اتمتع يوما ببعض الحزن او الاكتئاب او حتى بشتيمة يطلقها احدهم في وجهي..أليس من الكفر أن أن يمر يومي بهذه الصورة الوردية..ألن تجد لي حلا يقيني هذه النشوة التي تخنقني"

استغرب الطبيب كلام جليسه..فهذا السيد التعيس الجالس امامه جاء ليشكو سعادة وهمية خاصة وأن شكله لا يكاد يوحي بأنه عرف طعمها أصلا..فجأة مسك المواطن بقميص الطبيب وجذبه اليه صارخا بقوة "حل حل أريد حلا والا قتلتك..السعادة..الفرحة..الجمال..الكرامة..ااااااااه يا رأسي لن أتركك قبل أن تريحني من هذا الكابوس.." أفلت الطبيب من قبضة المواطن وخرج هاربا من مكتبه يطلب النجدة..

انتابت المواطن نوبة هستيرية امتزج فيها الضحك بالبكاء بالصراخ..جــــــن مواطن وكان كلامه عن السعادة تخاريفا لم تكن الا أول غيث جنونه..جــن المواطن وبقي وحيدا يضحك ويبكي ويصرخ ثم صمت فجأة وتسمرت عينيه في الباب..ليظل ساكتا لا ينبس بشفة وعينيه لا تكاد تفارقان الباب..الذي دخل منه منهكا نفسيا ليخرج منه فيما بعد مجنونا..ولترتاح منه زوجته..الى الأبد





Post a Comment (0)
Previous Post Next Post