أغرب من أفلام الخيال العلمي

لم يخطر ببال الدكتورة سوزان ريفيربي من كلية ويليسلي كوليدج في الولايات المتحدة حين تم تكليفها رسميا مع أربعة عشر عالما آخرين بالتحقيق في قضية (دراسة توسكيجي) الشهيرة، لم يخطر ببالها أنها ستعثر على بعض المستندات الرسمية التي تثبت أن إدارة الصحة العامة الحكومية أجرت تجارب سرية على مئات من الأمريكيين السود وعلى مئات الفقراء من جواتيمالا أودت بحياة الكثيرين منهم، وأن الأطباء الذين شاركوا في البرنامج حرموا مئات المرضى من العلاج ليدرسوا كيفية تقدم وانتشار البكتريا المسببة لمرض الزهري، وأنهم على امتداد سنوات تركوا المرض يفتك بأجسام هؤلاء الضحايا الفقراء الذين اعتبروهم فئران تجارب. وقد أدى الكشف إلى هرع الحكومة الأمريكية – الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته كلينتون ووزيرة الصحة سيبيليس – إلى تقديم اعتذار رسمي لرئيس جواتيمالا ألفارو كولوم في السادس من أكتوبر 2010. قبل الرئيس كولوم الاعتذار الأمريكي لكنه وصف ما حدث بأنه جريمة ضد الإنسانية.

بدأت القصة الأولى تتكشف عام 1972، حين كشف الإعلام ما عرف بعد ذلك بـ (دراسة توسكيجي) وهي الدراسة التي أجرتها خدمات الصحة العامة في الولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 1932-1972 على 400 مريض بالزهري، كلهم من الأمريكان السود الفقراء من مقاطعة توسكيجي بولاية ألاباما. في وقت بدء الدراسة لم يكن هناك علاج معروف لمرض الزهري الفتاك. والزهري (بالإنجليزية: Syphilis‏) مرض من الأمراض المنقولة جنسيا التي تسببها البكتيريا الملتوية اللولبية الشاحبة (Treponema pallidum) من سلالة البكتريا الشاحبة (pallidum). طريق انتقال مرض الزهري في الغالب يكون عن طريق الاتصال الجنسي، وهناك حالات قليلة جدا من الزهري الخِلقي تنتقل فيه العدوى من الأم إلى الجنين داخل الرحم. في عام 1932 لم يكن هناك علاج ناجح للزهري، وكان المرض يلحق أضرارا بـالقلب، والشريان الأبهر، والدماغ ،و العيون، والعظام. وفي بعض الحالات تكون هذه الآثار قاتلة.

أقدمت إدارة الصحة العامة الرسمية بين عامي 1932 و 1972 على إجراء دراسة سرية على 400 أمريكي أسود كلهم من الفقراء الأميين، وكلهم مصابون بمرض الزهري. وكانت هذه الدراسة سريرية (إكلينيكية)، وأجريت في توسكيجي، في ولاية ألاباما. حيث حرم الأطباء هؤلاء المرضى من أي علاج فعال، بحيث يتمكن الباحثون من ملاحظة التطور الطبيعي لهذا المرض عندما يترك بدون علاج. وحتى بعد التأكد من فاعلية البنسلين لعلاج الزهري في عام 1940، ترك الباحثون عمدا هؤلاء المرضى بلا علاج مما أودى بحياة الكثيرين منهم. وقد أدى الجدل حول السلوك غير الأخلاقي من الباحثين الذين أجروا هذه الدراسة في نهاية المطاف إلى تغييرات كبيرة في كيفية حماية المرضى في الدراسات السريرية وأقرت قوانين فدرالية بهذا الخصوص. ولكن في عهد الرئيس كلينتون وفي عام 1997 تم تكليف فريق من العلماء والمؤرخين لإعادة التحقيق في (دراسة توسكيجي) واستخلاص نتائج وتوصيات. وكانت الدكتورة سوزان ريفيربي من كلية ويليسلي كوليدج ضمن هذا الفريق. وقد توصل فريق التحقيق بسهولة إلى فظاعة الدراسة ولكنهم لم يخطر ببالهم أن التحقيق سيأخذهم بعد قليل شطر جنوب الولايات المتحدة إلى جواتيمالا حيث وقعت دراسة أخرى سرية قامت بها أيضا إدارة الصحة العامة الرسمية وقبل انكشاف (دراسة توسكيجي) إعلاميا مع الضجة التي صاحبتها، فتوجهت الإدارة إلى دولة أخرى اختارت فيها مئات المواطنين الفقراء والسجناء لا لتلاحظ عليهم تطور المرض بدون علاج، ولكن هذه المرة كان هؤلاء المساكين أصحاء، فقامت الدراسة بحقنهم بمرض الزهري وأخضعتهم للدراسة !.

لقد تأكد أولا للدكتورة سوزان ريفيربي وفريق البحث أن تجربة توسكيجي تمت بشكل غير أخلاقي بالمرة. وأن الأربعمائة أمريكي أسود لم يتم إخبارهم أبدا بأنهم مرضى بالزهري، بل أخبروا بأن عندهم مشاكل في الدم ووعدوا بأن يحصلوا على فحوصات طبية مجانية ووجبات طعام مجانية ووثيقة تأمين لكل منهم بتحمل تكاليف الدفن بعد وفاتهم !. التحقيق أثبت أن التجربة كانت عملا ضد الإنسانية، بكل المعايير. لكن بعض المستندات التي وقعت في يد الدكتورة سوزان ريفيربي قادتها عبر الحدود إلى جواتيمالا حيث تبين لها أن دراسة بشعة وقعت هناك بين عامي 1946 و 1948.

لقد تبين للدكتورة ريفيربي أن المشرف على برنامج جواتيمالا السري كان الدكتور جون كاتلر جيم ، الذي يعمل في إدارة خدمات الصحة العمومية الحكومية، وأنه بعد انتهائه من جواتيمالا عام 1948، عاد ليعمل ضمن دراسة توسكيجي وأن نفس الرجل ظل يدافع عن تلك الدراسة حتى أوائل التسعينات وبعد أن تكشفت أسرارها إعلاميا. ظل يدافع عن تجربة توسكيجي ولم يكن أحد يعلم أن نفس الطبيب قد أجرى دراسة سرية أخرى أشد قسوة وبربرية.

لقد اعتمدتُ في هذا العرض على الدراسة التي نشرتها الدكتورة ريفيربي الشهر الماضي بالإضافة للعديد من التقارير الإعلامي. وقد نحيتُ جانبا كثيرا من التفاصيل التي تدعو للاشمئزاز والغثيان، واكتفيت بما يفيد في إعطائنا فكرة واضحة عن الحالة المرضية التي تكتنف الحضارة الغربية الحديثة، والتي لا ينبغي أن تترك هكذا لجر البشرية إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف. لقد اكتشفت الدكتورة ريفيربي الحقائق التاريخية التالية وأعلنتها على الملأ أوائل أكتوبر 2010:

  • بعد عام 1940 وبعد اكتشاف فاعلية البنلسين لعلاج الزهري ثارت عدة أسئلة طبية محيرة أمام الإدارة الصحية الحكومية في الولايات المتحدة. كانت هناك خمسة أسئلة رئيسية:
  • هل يمكن أن يستخدم البنسلين كوقاية من الزهري وليس فقط لعلاجه ؟
  • هل يمكن إجراء تحاليل أفضل على الدم تكتشف مبكرا الإصابة بالزهري ؟
  • ما هي الجرعة المثالية من البنسلين لعلاج الزهري ؟
  • هل يمكن فهم الطريقة التي تحدث بها العدوى بالزهري مرة أخرى بعد الشفاء منه ؟
  • هل يمكن إيجاد علاج كيميائي يمكن للرجل استخدامه – إلى جانب الواقي الذكري – بحيث يستعمله فور انتهائه من علاقة جنسية مع امرأة مصابة بالزهري ؟

  • كانت الفحوصات المعملية التي أجريت على حيوانات الأرانب والشيمبانزي المحقونة بالزهري غير كافية لتبني نتائج واضحة في حالات الإصابة بالزهري عند الإنسان.
  • في عام 1944 أجرت إدارة الصحة العمومية تجارب على عدد من السجناء في سجن تيري هوت الاتحادي بالولايات المتحدة. قام الأطباء بحقن عدد من المساجين بمرض السيلان (والذي يمكن زرع البكتريا المسببة له معمليا) وتمت ملاحظة المصابين وتطور المرض بهم أملا في أخذ الدراسة خطوة أخرى بحقنهم بالزهري. لكن السجناء لم تظهر عليهم العلامات الواضحة للمرض بالشكل الذي كان متوقعا، وتم إلغاء التجربة.
  • للاستمرار في هذه التجارب اتجهت أنظار الإدارة الصحية العمومية إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، حيث قاد الدكتور كاتلر فريقا من الأطباء وتوجهوا إلى جواتيمالا.
  • قام فريق كاتلر في برنامجه السري، بجمع حوالي 1500 رجلا وامرأة من العسكريين المجندين ومن أحد سجون العاصمة ومن مستشفى الأمراض العقلية. تم الحصول على الموافقات الحكومية لإجراء هذه التجارب التي قيل لهم إنها فحوصات مخبرية ليست لها آثار سيئة على "المتطوعين". وتعهد الفريق في المقابل بمنح المستشفيات الحكومية في جواتيمالا معدات وأدوية مجانية. أما هؤلاء "المتطوعون" فلم يؤخذ رأيهم، ولم تؤخذ منهم أي موافقة على تعريضهم للتجارب الطبية.
  • قام الفريق الطبي أولا باستعمال عاهرات مصابات بالزهري لنقل المرض إلى السجناء (وكانت الزيارات "الجنسية" مسموح بها في سجون جواتيمالا). ثم قام الفريق في المرحلة الثانية بالحقن المباشر للسجناء ببكتيريا الزهري إما بصبها في مذاكيرهم أو بحقنها في أذرعهم ووجوههم. وقد أخذ جلد الأذرع والوجوه يتآكل بعد الإصابة بالمرض. وفي المرحلة الثالثة قام الفريق الطبي بحقن المرض من خلال ثقب في العمود الفقري.
  • تم استخدام العاهرات بالتعاون مع وزارة العدل وإدارة السجن المركزي في جواتيمالا، وكانت أجور العاهرات يتم تسديدها من الأموال الحكومية الأمريكية (أموال دافعي الضرائب). كانت العاهرات المصابات بالمرض يقدمن لزيارات السجناء مباشرة، وأما اولئك العاهرات الأصحاء فكان الفريق الطبي يصب بكتيريا الزهري في فروجهن قبل مضاجعة السجناء. كانت الممارسات غاية في الخسة والحيوانية.

  • على خلاف (دراسة توسكيجي) أعطى الأطباء علاج البنسلين لمن أجريت عليهم التجارب، لا لعلاجهم بطبيعة الحال ولكن لدراسة فاعلية البنسلين على الحالات المختلفة.
  • لم يعثر فريق التحقيق على إحصاء بعدد من تم شفاؤه ممن أجريت عليهم التجارب أو بعدد الذين ماتوا بسبب حقنهم بالزهري.
  • كان الفريق الطبي على إدراك كامل بالمساءلة الأخلاقية والقانونية التي قد تنشأ في حال الكشف عن هذا البرنامج. وقد أرسل الجراح الشهير الدكتور توماس بارن - مذكرة قال فيها لزملائه (تعرفون أننا لا يمكننا إجراء هذه التجارب داخل الولايات المتحدة. إن الخديعة هي الطريقة الوحيدة لإبقاء هذه التجربة طي الكتمان، تماما كما فعلنا في دراسة توسكيجي. إن كل ما يدور عندكم ينبغي كتمانه عن كل المسئولين في جواتيمالا، وألا يتم تداول أي معلومات تخص هذا المشروع إلا في أضيق حدود). وقد أقر الدكتور كاتلر نفسه بهذه الحقيقة في خطاب أرسله عام 1947 للعالم الشهير في أبحاث البنسلين الدكتور آر أرنولد، يقول فيه (إننا في الحقيقة لم نخبر أكثر الناس بحقيقة اللقاح الذي نحقنه في أجساد "المتطوعين" هنا في جواتيمالا. إننا نحبس أنفاسنا حتى لا يتم اكتشاف ما نقوم به. إن عبارات عارضة هنا يتم التفوه بها قد تقضي على المشروع كله. إن الخديعة ومخالفة القانون كثيرا ما تكون ضرورية من أجل تقدم البحث العلمي ..).
  • لم يكن الدكتور كاتلر المتحمس الوحيد لهذه الأبحاث غير الأخلاقية، فقد كتب إلى البروفيسور الشهير جون ماهوني الذي كان أول من أثبت قوة وفاعلية البنلسين، كتب له (إن أمامنا هنا فرصة ذهبية لدراسة الزهري على "متطوعين" من بني الإنسان. إن هذا المنجم الذهبي للأبحاث العلمية كفيل بالتغلب على أي صعوبات سياسية أو مالية ..) وقد رد عليه ماهوني مشجعا (إن أبحاثك التي تقوم بها تلقى إعجابا واهتماما بالغا هنا في الولايات المتحدة، ودائما ما توجه لنا أسئلة عن مدى التقدم الذي تحرزونه).
  • واجه المشروع بعض الصعوبات في جواتيمالا عندما أخذت الشائعات تسري بين "المتطوعين" بأن سحب العينات منهم سيؤدي إلى إنهاك أرواحهم كما كانوا يعتقدون بهذا في تقاليدهم، وفي نفس الوقت طرأت بعض الأولويات في الولايات المتحدة، فوجهت الأوامر للدكتور كاتلر وفريقه بالعودة للولايات المتحدة. عند عودتهم استمر كاتلر في برنامجه مع أطباء آخرين منهم الدكتور سيدني أولانسكي، الذي شارك أيضا في (دراسة توسكيجي). هذه المرة أجرى الفريق تجاربه على 62 من "المتطوعين" في سجن (سينج سينج) الشهير في ولاية نيويورك. تم حقن "المتطوعين" في الأذرع بين عامي 1953 و 1956. لكن هذه المرة تم شرح الدراسة لهم، وتركزت الدراسات وقتها على الردود المناعية لمرض الزهري.
  • لم تجد الدكتورة سوزان ريفيربي دليلا على حقن الأمريكيين في توسكيجي بالمرض، ولكنها ترى أن ما حدث في جواتيمالا لا يجعل ذلك مستبعدا، خاصة مع توفر المعرفة والخبرة الطبية وتوفر العنصرية ضد اللون الأسود.

إن الكشف عن هذه المأساة الإنسانية التي وقعت لمئات الفقراء في جواتيمالا عمدا مع سبق التخطيط والترصد، إنما هو كشف كذلك عن وجه قبيح للحضارة الغربية التي تنحرف بعيدا عن الأخلاق الأساسية لبني البشر وتعمق من النظرة العنصرية نحو "الآخر". وإنك لتعجب كيف تم التكتم على ذلك البرنامج السري لأكثر من ستين عاما، برغم أن الأطباء والإداريين الذين أحيطوا به علما كانوا بالعشرات. تعجب لأنه لم يخرج منهم طبيب واحد عنده بقية من ضمير إنساني حي، يهتك به ستر هذه الجريمة التي لو وقعت في بلادنا لكانت حديث الإعلام والحكومات الغربية شهورا وسنوات.

لقد أنتجت الولايات المتحدة العديد من أفلام الخيال العلمي التي تدور حول طبيب عبقري مجنون يجري تجارب علمية سرية على البشر وعادة ما تنتهي القصة بتدمير قلعته التي يجري فيها أبحاثه، أو تنقلب التجارب عليه فيصاب بنفس المرض. ولم يخطر ببال كاتبي أفلام الخيال العلمي أن يكون بطل هذه القصص هي الحكومة الأمريكية وليس مجرد شخص واحد مختل العقل ومنعدم الأخلاق. كما لم يخطر ببالهم أنه بدلا من أن تجرى التجارب على أفراد قلائل إمعانا في التكتم والسرية، فإن الحكومة قادرة على إجراء تجارب على مئات من البشر كأنهم فئران تجارب، وأن هؤلاء الضحايا يتم اختيارهم على أسس عنصرية بغيضة.

ون يجري تجارب علمية سرية على البشر وعادة ما تنتهي  القصة بتدمير قلعته التي يجري فيها أبحاثه، أو تنقلب التجارب عليه فيصاب  بنفس المرض. ولم يخطر ببال كاتبي أفلام الخيال العلمي أن يكون بطل هذه  القصص هي الحكومة الأمريكية وليس مجرد شخص واحد مختل العقل ومنعدم الأخلاق.  كما لم يخطر ببالهم أنه بدلا من أن تجرى التجارب

هذا ما كشفت عنه هذه الباحثة الشجاعة وما خفي كان أعظم.

Post a Comment (0)
Previous Post Next Post