عندما اكتملت الصورة : قصة قصيرة


عندما اكتملت الصورة قصة قصيرة

قال لها وهي تريه آخر لوحاتها (لماذا لم ترسمي لي صورة ؟)

دارت مقلتيها في عينيها الجميلتين وقالت (ربما لأن الاقتراب الشديد يحول دون وضوح الرؤية)

قال (أريد أن أري نفسي بريشة حبيبتي)

أسرعت لأوراقها وألوانها وبدأت الرسم ، قال لها مازحا (ما هذا ؟ عيون وفم وآذان ، ليس هذا ما أريده ، لا أريد صورة شكلية أو بورتريه ، أتوقع شيئا مختلفا ، إبداعا خاصا)

قالت في مرح وحزم (أعدك بمفاجأة ، قبلت التحدي)

ـ ـ ـ ــــ

استغرقت (سلمى) في تفكير عميق بعد أن استحوذت عليها الفكرة تماما ، كلام (عاطف) صحيح ، عقد قرانهما منذ شهور واقترب موعد الزفاف كيف لا تضع مشاعرها تجاهه في برواز ؟

هي الرقيقة الفنانة الحالمة لم تخطر ببالها هذه الفكرة وهو الرجل العملي ابن السوق يسبقها إليها ، أخذت تطارد خيالها ، تريد أن ترسمه من الداخل وليس من الخارج ، كيف نري الناس من الداخل ؟

عن طريق أفعالهم.

ماذا جذبها إليه ؟

اختلافه الكامل عنها ، جرأته ، قوته ، قدرته علي الإمساك بزمام الأمور ، استعداداته الفائقة علي التحدي ، لا يوجد في بيئتها المخملية من يماثله ولذلك فهي منبهرة به كما تقول أمها في شفقة دائما.

أيام من التفكير حتى توصلت لأسلوب مبتكر في الرسم ، قسمت اللوحة البيضاء الكبيرة عدة مربعات متساوية وغطتها كلها بقماش أبيض فيما عدا المربع الأول وبدأت الرسم فيه ، تذكرت لقاءهما الأول في المكتبة حين ضايقها أحد المتسكعين فلقنه (عاطف) درسا قاسيا كان يشبه النمر حين يكشر عن أنيابه ويهاجم فريسته ، أعاد لها اعتبارها وجعلها تشعر لأول مرة أنها أخذت حقها ممن تطاول عليها ، كانت ترتبك في مثل تلك المواقف ولا تحر جوابا ، فهي غير معتادة علي حل مشاكلها بالصراع، ولذلك كان امتنانها له كبيرا ، وحين تقدم لخطبتها لم تهتم أبدا باختلاف المستوى الاقتصادي والاجتماعي بينهما ، كما لم تهتم بالماديات من شبكة ومهر فهي كلها (شكليات وبدع كما أقنعها).

توالت المواقف والمربعات المرسومة التي كانت تغطيها بمجرد الانتهاء منها وهكذا احتفظت دائما بمربع واحد للرسم والباقي مغطي ، رسمت كثيرا (طائر الرخ الأسطوري يحلق مستعدا للانقضاض علي فريسته) (شمس الصحراء اللاهبة في كبد السماء) (أسد مستلقٍ في خمول انتظارا للبؤته عائدة بالطعام) (نباتات استوائية ملتفة ذات لون ناري)

حيرتها الخلفية حتى استقرت علي أن تشبه الغابات ، غابات برية لم تطأها قدم تحمل أسرارها ولا يعرف أحد كيف تكونت ، وكيف ساعد الإهمال والعزلة والتعطش على تكوين خصائصها الغريبة والمختلفة.

هناك مواقف تذكرتها وحيرها كيف تعبر عنها فقد كان له فيها منطقه الخاص الذي لم تستوعبه ، مثل إصراره علي منع أبناء أخته الأيتام من الحصول علي ميراثها علي أساس أن أبيهم قد يسئ استخدامه بينما هو وحده القادر علي الحفاظ عليه ، ولما سألته عن مدى مساعدته ورعايته لهم تفادى الإجابة وأخذ يصف كم كان يحب أخته رحمها الله.

كل المواقف المادية كانت تختلف علي تقييمها هي وأمها فبينما كانت أمها مصرة علي وصفها بالبخل والاستغلال كانت تراها حسن استخدام للمال وعدم إهداره وأيضا عدم اهتمام بالتقاليد البالية الخاصة بكثرة الهدايا للعروس وجلب أشياء لا قيمة لها.

خصصت مربعا للكلام ، كلامه دائما رائع يدير رأسها همت برسم فراشات جميلة وزهور بديعة ، ولكنها تذكرت أنها حاليا تترجم فقط الأفعال لا الكلمات وبما أن كلماته لم تصبح أفعالا فقد رأت أن ترسمها فقاعات ملونة.

أما ملابسه فقد احتارت فيها ولم تجد أفضل من لوحة الموزايك ذات الألوان المتداخلة بلا خطة ولا تناسق معين لتعبر عنها ، ضحكاته الصاخبة وتعليقاته الحادة عبرت عنها بطلقات الرصاص.

بينما تضع لمساتها الأخيرة علي اللوحة العجيبة كانت تشعر أن هناك أشياء تتكسر بداخلها بشكل مبهم ، قبل أن تتتبع أفكارها جاءها تليفون كانت صاحبة الشقة التمليك التي تتفاوض علي شرائها كشقة للزوجية من مالها الذي ورثته عن أبيها وكانت قد اتفقت مع عاطف على ذلك بعد أن علمت بعجزه عن توفير المسكن اللائق.

قالت السيدة مالكة الشقة والتي تربطها بهم علاقات عائلية وطيدة : اسمعي يا سلمى عريسك جاءني وحده وكان يلمح بكتابة عقد البيع باسمه وكان يفاوضني على إقناعك بذلك عند كتابة العقد ولوح لي بإعطائي مبلغا من المال خارج البيع في مقابل ذلك ، سقطت نقطة سوداء علي اللوحة.

دخل (عاطف) متهللا : هل انتهيت من لوحتك يا حبيبتي نريد الذهاب لموعدنا.

قالت : أي موعد ؟

رفع حاجبيه دهشة : كتابة عقد الشقة ، هل نسيتِ ؟

قالت : صحيح باسم من سنكتبها ؟

photo

قال في مرح : باسمنا معا ، أنا وأنت واحد ، عموما دعي الأمر لوقته ، والآن بسرعة أريد رؤية اللوحة.

بجذبة واحدة نزعت الغطاء الأبيض وكشفت صورته كما رسمتها أفعاله.

قطب جبينه وهو ينظر ، وغاضت ضحكته ، واصفر وجهه ، وتراجع للوراء خطوات وهو يهتف: يا لها من لوحة مخيفة.

نظرت هي ولأول مرة أخذت تتأمل الصورة عندما اكتملت ، وقالت بهدوء : فعلا إنها مخيفة ، بل مرعبة مرعبة مرعبة.

تراجعت خطوة للخلف وظلت تتراجع وتتراجع وتتراجع حتى اختفت تماما من اللوحة.

Post a Comment (0)
Previous Post Next Post